ترجمة: سماح جعفر
"مقتطفات من مذكرات"
16 يونيو 1968، فونتاينبلو
... لقد كنت سعيدًا طوال اليوم ... ليس هناك سبب لهذا الأمر سوى المكان نفسه. إنه غريب جدًا، من الواضح إنه ليس كأي من الأماكن الأخرى التي قضيت بها معظم حياتي- لم أكن لأتأثر به هكذا لو كان مثلها. خلال اليوم بأكمله، لم أغلق عيني ولو مرة لتجاهل ما يأتي إلى محيط بصري- لم أرى حتى وجهًا يثير الاشمئزاز، رغم أن هذا حادث يمكن أن يقع. لم أتعود أن أكون محاطًا دومًا بالمناظر الجميلة، لذلك أحس بالانتشاء.
أكتبُ هذا من غرفتي في فندق "لندن"، على طاولتي الصلدة الكبيرة التي تواجه النافذة، والتي تواجه مدخل القصر الملكي القديم في فرنسا.
لا أستطيع أن أرى القصر كله، بالطبع (لا يمكنك فعل ذلك إلا من الجو)- أنظر للأسفل نحو المدخل وأستطيع رؤية ظل الدرج العظيم، موجتان من الأحجار تبرز في الواجهة. تقودك إلى المبنى، ثم تعيدك لإلقاء نظرة ثانية على الفناء بأكمله، والأجنحة الثلاثة بتغير أنماط أسقفها المرحة. كنت أسير جيئة وذهابًا على المدخل لمدة ساعة صباح اليوم، قبل أن أصل إلى بركة سمك الشبوط التي تصل إلى حواف النافورة، والتي هي واحدة من ثلاثة أخريات يحيطون بأجنحة القصر، شيدوا من فترة سابقة - وما زال القصر هو نفسه، ولكن هذا جزء آخر منه. يبدو فونتاينبلو مثل مكان صغير، كمبنى مكتفي ذاتيًا إذا نظرت إليه من أي زاوية - لم يتضح لي إلا بعد ساعات من المشي كم هو ضخم حقًا. وكيف أنه تحفة معمارية مكبوحة.
بركة سمك الشبوط (مع الأسماك الذهبية الغاضبة التي تقفز في الهواء في نضالها من أجل فتات الخبز) تطوق عش الحب الملكي، غرفة واحدة مثمنة تحميها المياه.
على الجانب الآخر من البركة أمشي في الحديقة الإنجليزية (ليس هناك شيء يماثلها تمامًا في انجلترا) حيث التماثيل المثالية للنساء الجميلات ذوات الأثداء الصغيرة الرائعة، والتماثيل النصفية للوجوه القديمة الخلابة تقف بين الأشجار والشجيرات، لإعطاء بُعد من الجمال الإنساني إلى الغابة. سحر الخليط لا يمكن وصفه، فقط تجربته.
حتى داخل القصر، كان حاضرًا. الغرف والأروقة تبدو وكأنها هناك فقط لتوفر مساحة لتقديم الشخصيات البشرية في الرخام، الجص، والطلاء. أغلبهم كانوا نساء وأطفال- الأطفال يعرضون، يدفعون، مؤخراتهم السمينة المرحة من خلال الأبواب، الجدران، وحتى السقوف.
كل حفلات المجون البشرية في ظل أخضر بأثر النوافذ الكبيرة المطلة على الحديقة. لقد اختبرت اليوم بطريقة فريدة أخوية الرجال والطبيعة ... ديانا مع كلابها ...
لقد بدأت في وقت مبكر من اليوم في جرونوبل وأعتزم التوقف عند فونتاينبلو لبضع ساعات فقط، وأنوي العودة إلى لندن الليلة، لا أستطيع أن أذكر الشعور بالحاجة الملحة الذي يمتلكني عندما أضع خططًا. الجمال أمر مربك. وذلك بيت القصيد - لكنه لم يحدث لي من قبل أن شاهدت الناس يمشون في الحدائق كما لو أن وقتهم لا ينفذ؛ وأدركت فجأة أنه مرت سنوات منذ أن رأيت الناس يمشون بتؤدة تمامًا.
نحن دائمًا عابرون، قلقون من التأخر، غافلون عن وجهتنا. البيئة العصرية تضغطنا للداخل، ترسلنا لنوع من السبات العقلي- نحاول أن لا نمتص السم، أن لا نراه، أن لا نستجيب. ولكن كلما صرنا أكثر كفاءة في تجاهل ما يهاجم حواسنا، أصبح شعورنا بمحيطنا أقل. نتوقف للبحث عنه في العالم، نسافر بشكل متزايد داخل جماجمنا، نكون فريسة لسلاسل متصلة من الأفكار التي تتحول إلى هواجس. أيًا كان ما يرشح من العالم الحقيقي، فنحن ننتقل إلى أشياء أخرى أكثر خيالية.
لذا، عند الوصول، فونتاينبلو هي هزة. لاحظت في معرض فرانسوا أي، عبوات من روائع عصر النهضة الإيطالي (أول وهلة حين يعبر المرء مدخل الزوار) كان هناك الكثير من الحديث حول أسعار الفنادق، المطاعم، والسياسة. ولكن بحلول الوقت الذي وصلنا فيه إلى الصالة المعقوفة، نسي الكل أنفسهم وأخذوا يشاهدون تمثال صبي صغير يحتضن بجعة ضخمة، أصابعه نصف مغمورة في الريش، بينما تنثني البجعة إلى الأمام وتحني رقبتها الطويلة لتشرب المياه.
... هوس هو زخم المنطق المستغرق. لذلك، حتى عندما ننسى الجمال، فإننا نعاني من غيابه الخدر- لأن الجمال لديه القدرة الدامغة على إلهاءنا عن أنفسنا، على إنقاذنا من أشد أنواع الوحدة بشاعة، وحشة حياة الخيال.
20 يونيو، فونتاينبلو
قبل بضعة أعوام، في واشنطن، كنت وقحًا حد اعترفت لصديق بأن البيت الأبيض يبدو رخيصًا حتى لو وضع بجوار قصر البوربون في نابولي، في كابوديمونتي، والذي لم يحتوي أبدًا أي سلطة حقيقية. رفض صديقي شكواي. "لا يمكن أن تحكم على البيت الأبيض من ما تستطيع رؤيته منه"، ثم قال بنفاذ صبر. "معظمه تحت الأرض".
هنا في فونتاينبلو أنت ملزم بأن تحس بحنو تجاه الملوك القدماء. في كابوديمونتي أو فرساي (فرساي تضم أكبر مجموعة من الحكام والملوك ذوي الوجوه اللئيمة الفاسدة)، لذلك لم يكن من الصعب علينا تذكر أن العظمة الملكية صنعت من عرق ودماء البسطاء. لكن الحكام المعاصرين ينفقون الكثير من الثروة الملكية على صواريخ تخزن وترسل خردة إلى الفضاء الخارجي ومتاهات تحت الأرض مكتظة بأدوات الأطفال المهووسين، بينما نصف البشرية جائع. الملك القديم السيئ كان على الأقل يعطي فكرة أولية لرعاياه عن الفرح الذي يسرقه منهم. فهو يستكشف إمكانية تحقيق الظروف المعيشية المثالية.
ليس هناك حقًا حاجة لتعلم السمسرة واللجان للتأمل فيما يفتقده الناس. لقد تم إجراء البحث، كل شيء هنا: المباني لا يجب أن تزيد علوًا عن الأشجار، الغرف واسعة، أسقف عالية ونوافذ كبيرة، أعمال فنية، تذكارات من أي وقت مضى، وكل هذا لا يجب أن يكون بعيدًا عن الطيور، الحدائق والبحيرات.
أتمنى لو أن بإمكاني طباعة منشور حول هذا الموضوع، منفستو فونتاينبلو، وتوزيع ملايين النسخ في جميع أنحاء الضواحي والأحياء الفقيرة - ليس لأن ذلك قد يصنع أدنى فرق. ولكن بعد، لا شيء مستحيل.
22 يونيو، فونتاينبلو
قيل لي أن الصخور التي في منطقة تيماجامي في شمال أونتاريو كانت هناك منذ 175,000,000,000 سنة، ولكنها تبدو وكأنها لا تزيد قدمًا عن الطائرات الصغيرة والقوارب، محطات الوقود ومحلات الوجبات السريعة. الطبيعة تظهر نفسها بعمر مساوي لإطارها الإنساني ولا تعطينا أي تلميح عن ما حدث قبل أن نولد، بمجرد أن ندمر العلامات التي من صنع الإنسان.
في فونتاينبلو أكون غارقًا في ضخامة الماضي، رغم ذلك فإن بضع جدران فقط تعود إلى ما يقرب من القرن الثاني عشر، عندما تم بنائها أول مرة ككوخ صيد لـ "لويس السادس".
القصر، مثل كل الأعمال الفنية العظيمة، يمتلك التوتر الحي من التناقضات. التمازج الدرامي للخطوط المستقيمة والمنحنيات- يمكن للمرء أن يقول تقريبًا بأن كل خط مستقيم يمر بمنحنى وبطريقة ما يبدوان متوازنين، ولكن فقط ... المبني حي لأنه كان يتزايد على مر القرون، حيث أن كل ملك أضاف جناحًا، معرضًا أو سرداق. أسلوب كلٍ منها متجذر في فترته الخاصة، ولكنه يعكس كل ما سبقه، لذلك فمرور الوقت يُميَّزُ على الرغم من أن استمراره متواصل. عندما تمر عبر مدخل أو حتى درج، فأنت تمشي في قرن آخر، لكن المكان برمته لا يزال قطعة واحدة.
... لم أشعر تمامًا، منذ فترة طويلة، كم نحن منبوذين من دون صحبة الموت. ربما لأننا مهووسون بالمستقبل ونجد صعوبة في وصله بالحاضر، لأننا منفصلون عن الماضي. إحساسنا بالوقت معطل. ليس هنالك طريقة أخرى لتفسير هستريا الحياة اليومية والسياسة. فكرة أنه من الأفضل أن تكون هناك حرب نووية تفني الجنس البشري، عِوض أن ندع العدو "يفوز"، ليس مرحبًا بها مثلما كانت في الماضي، لكن الهلع ما زال مستمرًا. إنها مثل كل شيء في التاريخ يحدث مرة واحدة وإلى الأبد.
كان فونتاينبلو المكان المفضل لدى نابليون بين كل القصور الملكية في فرنسا. هو هنا أكثر من شخصية شبه خيالية في الآثار وكتب التاريخ- هنا يمكن للمرء أن يحس بأنه كان شخصية حية- تذكارات من حياته اليومية في كل مكان. عش الحب في البحيرة بني بواسطة لويس الرابع عشر، لكنه سمي جناح الإمبراطور، وترى أيضًا حرف النون الفخور. تلكأت اليوم في غرفة نومه في القصر- إنها صدمة، كم هو صغير السرير الذي يحتاجه، على الرغم من كون المرء يعرف أنه كان رجلًا قصيرًا- اللوحات تروي قصصًا طويلة. فراشه لا يتعدى مهد طفل، رغم أن فوقه قبة مخملية بالحجم الملكي والمشغولات الخشبية تعج بشعاراته الملكية، حرف النون، أكاليل الغار والشخصيات المجنحة للنصر. في حجرة الانتظار، تحت القبة الزجاجية على طاولة مستديرة، تقبع "القبعة الصغيرة" للإمبراطور، التي كان يرتديها عندما كان يقود جيوشه في المعارك التي غزا فيها معظم أوروبا؛ وفي غرفة الخرائط تقبع كرته الأرضية الضخمة والتي بإمكانه الدوران حولها كما يحب، ولبعض الأسباب اعتقد نابليون أن هذا القصر هو أنسب مكان يحكم منه القارة : دعاه فونتاينبلو "منزل القرون، المقام الحقيقي للملوك". هنا، أيضًا، كان أن وقّع، متشككًا، قرار عزله.
من خلال نافذتي أرى المدخل، الدرج الواثب.
سار خطواته نزولًا في 20 أبريل 1814 وودع جنوده الأوفياء الباقين من جيشه المنكمش، قبل أن يؤخذ بعيدًا إلى منفاه. "الوداع يا أولادي!" [الجملة بالفرنسية في الأصل].
اليوم لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن للناس التحدث عن الانتصارات الحاسمة أو الهزائم. لكنني سأغادر غدًا.
إننا نحرر أنفسنا من الماضي، ونعيش تحت إدانة العزلة في الزمن.
منفستو فونتاينبلو
إننا نتنازل عن المستقبل.
غير مهتمين بالانتصارات.
لا نريد أن نحكم رجالًا آخرين.
لا نريد إخضاع الطبيعة.
نعلم أن الموت يهزمنا.
ونريد استعادة الماضي،
عيش الحاضر، وأن نحكم أنفسنا فقط.
فخرنا هو أننا ما زلنا عقلاء وقادرين على الحب.
على الرغم من كل أهوال العالم، ولكنه أمر صعب.
لا نستطيع العيش على خبز طعمه مرٌ بالقذارة.
لا نستطيع استنشاق هواء مسمم بمصانع الموت.
نحن لسنا بحاجة للصواريخ، السيارات، أجهزة الكمبيوتر، وفرش الأسنان الكهربائية.
يمكننا دونها أن نفعل كل ما يمكن لملوك النفايات العظماء أن يفعلوا،
ولكننا لا نستطيع العيش دون هواء الغابات، الحقول والأنهار
الساحات العظيمة والحدائق ونعم، قصورنا.
إنها كذبة أن العالم لا يستطيع أن يوفر أبهة للجميع
إننا نتخلى عن قيمة العقارات.
لا نستطيع العيش دون الجمال؛
العديد منا يبحثون عنه في المخدرات
والكحول والكراهية.
نحن نحاول أن لا نخضع للبدائل.
ولكنه أمر صعب.
العالم بحاجة لثورة ملكية.
بحيث يمكن لجميع الرجال أن يعيشوا كالملوك.
مقال طريف وفيه آفكار شاهقة وربما آن أوان
ReplyDeleteأن نجد الحلول لمشاكل الوجود الانساني
بالعودة الى الماضي ولكن حتى لو حدث
كيف نتخلص من السياسيين؟
عموما هذا كاتب جديد علي وكتابته
تذكرني بالفنادق والميادين والسفر
مرة كنت على قطار من جنوا أنا وصديق
في طريقنا لفينا وكانت معنا عدة
السفر وصديقي كان قد اشترى كتاباً
لآلبير كامو فراح يقرأ ويتابع معي
جمال الريف الإيطالي وبعد مغادرة القطار
سألته بقلق آين كتاب ألبير كامو فقال لي
تركته في القطار! قلت له تركت كامو مع بقايا الجبن والتفاح وعلب البيرة فقال لي: البيرة لم تعجبني وركضنا لنلحق قطاراً آخر! شكراً سماح. حركاتك دي ما بتتبطل
Please cut and paste on browsers address bar:
ReplyDeletehttp://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=420&msg=1360439296