ترجمة: سماح جعفر
* الجزء الثاني والأخير
يمكن أن تعتبر أنك
تمتلك فكرة سينمائية بمجرد أن تدمجها في العملية السينمائية. فيصبح بإمكانك أن
تقول، "لدي فكرة" حتى لو اقترضتها من دوستويفسكي.
الفكرة هي أمر بسيط
جدًا. إنها ليست مفهومًا؛ إنها ليست فلسفة. حتى لو كان بإمكان المرء أن يرسم
مفهومًا من كل فكرة. أفكر الآن في مينيلي، الذي كانت لديه فكرة خارقة حول الأحلام.
إنها فكرة بسيطة - يمكن قولها - ويمكن دمجها في العملية السينمائية داخل عمل
مينيلي. فكرة مينيلي الكبيرة حول الأحلام هي أن أحلام الجميع يجب أن تتعلق بأولئك
الذين لا يحلمون. أحلام أولئك الذين يحلمون يجب أن تشمل أولئك الذين لا يحلمون.
لمَ يجب أن تتعلق بهم؟ لأنه بمجرد أن يحلم شخص ما، يصبح هناك خطر. أحلام الآخرين
ترهب وتهدد دومًا بإبادتنا. ما يحلم به الآخرين أمر خطير للغاية. الأحلام هي إرادة
مرعبة للسلطة. كل واحد منا هو ضحية بشكل ما لأحلام الآخرين. حتى المرأة الشابة
الأكثر كياسة هي مخربة مروعة، ليس بسبب روحها، ولكن بسبب أحلامها. حذار من أحلام
الآخرين، لأنك لو انجرفت في أحلامهم فقد انتهى أمرك.
فكرة سينمائية، على
سبيل المثال، هي التفكيك الشهير للرؤية والكلام في الأفلام الحديثة نسبيًا، سواء -
أخذنا الأكثر معرفة- سايبربيرغ، ستراوب، أو مارغريت دوراس. ما القواسم المشتركة
التي تجمع بينهم، وكيف أن فكرة فصل الصوت عن الرؤية هي فكرة السينمائية؟ لمَ لا يمكن
أن يتم ذلك في المسرح؟ يمكن أن يتم ذلك، ولكن إذا نُفذ في المسرح، دون أي استثناء،
ووجد المسرح وسيلة للقيام به، يمكن للمرء أن يقول أن المسرح اقترض الفكرة من فيلم.
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا، ولكن فكرة فصل الصوت عن الرؤية هي فكرة سينمائية،
والنظر عن التحدث، سيكون هذا الأمر بمثابة استجابة مثالية لما عليه الفكرة في
السينما.
صوت يتحدث عن شيء ما.
شخص ما يتحدث عن شيء. في نفس الوقت، نرى شيئًا آخر. وأخيرًا، ما يتحدثون عنه أسفل
ما نراه. هذه النقطة الثالثة هامة جدًا. يمكنك أن ترى كيف أن المسرح لا يمكن أن
يكون جزءً من هذا الأمر. المسرح يمكن أن يأخذ المقترحين الأولين: شخص ما يقول لنا شيئًا
ما، ويروننا شيئًا آخر. ولكن وجود ما يخبرنا به شخص ما في نفس الوقت تحت ما نراه-
هو أمر ضروري، وإلا فإن المقترحين الأولين يصبحان دون معنى وغير ذي أهمية. يمكننا
أن نضع الأمر بطريقة أخرى: الكلمات ترتفع في الهواء بينما الأرضية التي نراها تسقط
للأسفل أكثر. أو بينما ترتفع هذه الكلمات في الهواء، ما يتحدثون عنه يسقط إلى
الأسفل.
ما هو هذا الأمر إذا
كانت السينما وحدها تستطيع فعله؟ أنا لا أقول أنها يجب أن تقوم به، لمجرد أنها
فعلته مرتين أو ثلاث مرات. أستطيع أن أقول ببساطة أن صانع أفلام عظيم لديه هذه
الفكرة. هذه الفكرة السينمائية. هذا استثنائي لأنه يضمن تحولًا حقيقيًا للعناصر
على مستوى السينما، دورة تجعل السينما يتردد صداها فجأة مع الفيزياء النوعية
للعناصر. وتنتج نوعًا من التحول، التداول الواسع للعناصر في السينما يبدأ من
الهواء والأرض والماء والنار. كل شيء أقوله لا يلغي تاريخ السينما. لأن تاريخ
السينما لا يزال هناك، ولكن ما يضربنا هو لمَ هذا التاريخ مثير للاهتمام، ما لم
يكن ذلك لأنه يحتوي على كل هذا الأشياء خلفه ومعه. في الدورة التي حددتها للتو
-الصوت يرتفع بينما ما يتحدث عنه الصوت يسقط للأسفل- ربما ميزت معظم أفلام ستراوب،
الدورة الكبيرة للعناصر في عمله. نرى فقط الأرض المهجورة، ولكن هذه الأرض المهجورة
تبدو ثقيلة بما يرقد تحتها. قد تسأل: كيف لنا أن نعرف ما يرقد تحتها؟ هذا هو
بالضبط ما يقوله لنا الصوت. بينما ترزح الأرض تحت ما يقوله لنا الصوت؛ أنه ذلك
الذي أتى ليأخذ مكانه تحت الأرض عندما يصبح جاهزًا. إذا كان الصوت يتحدث إلينا عن
الجثث، عن سلالة الجثث التي أتت لتأخذ مكانها تحت الأرض في تلك اللحظة، ثم أتى
الهمس الطفيف للرياح على الأرض المهجورة، على المساحة الفارغة التي أمام عينيك،
أصغر تجويف في هذه الأرض سيأخذ في الحسبان.
أنا أعتبر أن امتلاك
فكرة، حول أي موضوع، ليست لأجل التواصل. هذه هي النقطة التي كنت أهدف إليها. كل
شيء نتحدث عنه غير قابل للاختزال في أي تواصل. هذه ليست مشكلة. ماذا يعني ذلك؟ في
المقام الأول، التواصل هو نقل ونشر المعلومة. ما هي المعلومة؟ أنها ليست أمرًا معقدًا
للغاية، الجميع يعرف ما هي. المعلومة هي مجموعة ضرورات، شعارات، اتجاهات أوامر-
كلمات. عندما يتم إعلامك، فالقصد هو إخبارك بما يريدونك أن تصدق. وبعبارة أخرى،
الإعلام يعني نشر أوامر-كلمات.
تصريحات الشرطة يطلق
عليها بلاغات. يتم إيصال المعلومة لنا، يقولون لنا ما يفترض أن نكون على استعداد
له، أو ما يجب أن نفعله، أو ما يجب أن نؤمن به. ليس الإيمان حتى، ولكن مجرد
التظاهر بأننا نؤمن. لا يطلبون منا أن نؤمن بل أن نتصرف كما لو أننا نفعل. هذه هي
المعلومة، التواصل. وخارج هذه الأوامر وانتقالها، لا توجد أي معلومة، أي تواصل.
إنه هو نفس الشيء حين نقول أن المعلومة هي بالضبط نظام للرقابة. إنه أمر واضح
ويهمنا جميعًا اليوم.
أننا ندخل مجتمعًا
يمكن أن نسميه مجتمعًا انضباطيًا. مفكر كميشيل فوكو حلل نوعين من المجتمعات
القريبة نسبيًا لمجتمعنا. دعا أحدها المجتمع السيادي والآخر المجتمع التأديبي. كان
لديه الممر النموذجي من المجتمع السيادي إلى التأديبي متطابقًا مع نابليون.
المجتمع التأديبي تم تعريفه -تحليل فوكو ظل شهيرًا، وصحيحًا- عن طريق إنشاء مناطق
الحبس: السجون، المدارس، ورش العمل، المستشفيات. المجتمعات التأديبية احتاجت
لوجودهم. تحليله أدى إلى تأويلات ملتبسة لبعض القراء لأنهم اعتقدوا أنها كانت
كلمته النهائية. من الواضح أنها لم تكن. فوكو لم يؤمن بذلك المجتمع وقال بشكل واضح
أن المجتمعات التأديبية ليست أبدية. لقد اعتقد بوضوح أننا كنا ندخل نوعًا جديدًا
من المجتمعات. كانت هناك، بالطبع، مجتمعات تأديبية مختلفة على مر السنوات، ولكننا
نعرف بالفعل أننا الآن في مجتمعات من نوع مختلف والتي ينبغي أن تسمى، باستخدام
مصطلح بوروز -لدى فوكو اعجاب شديد ببوروز- المجتمعات الانضباطية. نحن ندخل
المجتمعات النضباطية التي تم تعريفها بطريقة مختلفة جدًا عن المجتمعات التأديبية.
أولئك الذين يقلقون من أن رفاهيتنا لا حاجة لها لفترة أطول، أو أننا لم نعد بحاجة
إلى أماكن الحبس.
لأن السجون، المدارس،
المستشفيات هي بالفعل أماكن ناقش دائم. ألن يكون من الأفضل توسيع الزيارات
المنزلية من قبل الأطباء؟ نعم، وهذا هو بالتأكيد المستقبل. ورش العمل والمصانع
تنفجر في الطبقات. ألن يكون من الأفضل استخدام تعاقدات من الباطن والعمل من
المنزل؟ أليست هناك طرق أخرى لمعاقبة الناس غير السجن؟ المجتمعات الانضباطية لن
تمر مجددًا خلال أماكن الحبس. حتى المدارس. يجب علينا أن نراقب عن كثب الموضوعات
التي ستتطور خلال الأربعين أو الخمسين سنة القادمة. لأنها سوف تشرح كم هو رائع
ملاحقة كل من المدرسة والمهنة. سيكون من المثير للاهتمام أن نرى ماذا ستصبح هوية
المدارس والمهن مع التدريب المستمر، والذي هو مستقبلنا. لن يتم جمع الأطفال مجددًا
في أماكن الحبس. الانضباط ليس تأديبًا. أنت لا تحبس الناس في طريق. ولكن من خلال
صنع الطريق، فإنك تضاعف وسائل السيطرة. أنا لا أقول أن هذا هو الهدف الوحيد من
الطرق، ولكن يمكن للناس أن يسافروا بلا حدود و"بحرية" دون أن يكونوا
محبوسين بينما يتم التحكم بهم تمامًا. هذا هو مستقبلنا.
دعنا نقول أن هذا هو
ما تعنيه المعلومات، نظام التحكم بالأمر-الكلمات المستخدم في المجتمع المعطى. ما
هي علاقة العمل الفني بذلك؟ دعونا لا نتحدث عن الأعمال الفنية، ولكن دعونا على
الأقل نقول أن هناك معلومات مضادة. في زمن هتلر، اليهود القادمين من ألمانيا كانوا
أول من أخبرنا عن معسكرات الاعتقال ، كانوا يقدمون معلومات مضادة. يجب علينا أن
ندرك أن المعلومات المضادة لم تكن أبدًا كافية لفعل أي شيء. لم تزعج المعلومات
المضادة هتلر أبدًا. إلا في حالة واحدة. أي حالة؟ هذا ما هو مهم. المعلومات
المضادة تصبح فعالة حقًا عندما تكون -وهذا في طبيعتها- أو تصبح فعل مقاومة. فعل
المقاومة ليس معلومات أو معلومات مضادة. المعلومات المضادة فعالة فقط عندما تصبح
فعل مقاومة.
ما العلاقة هناك بين
العمل الفني والتواصل؟ لا شيء على الإطلاق. العمل الفني ليس أداة تواصل. العمل
الفني ليس له علاقة بالتواصل. العمل الفني لا يحتوي على أقل قدر من المعلومات. في
المقابل، هناك تقارب جوهري بين العمل الفني وفعل المقاومة. لأن له علاقة
بالمعلومات والتواصل كفعل مقاومة. ما هي هذه العلاقة الغامضة بين العمل الفني وفعل
المقاومة بما أن الرجال والنساء الذين يقاومون لا يملكون الوقت ولا الثقافة
الضرورية أحيانًا ليكون لهم أدنى اتصال بالفن؟ لا أعرف. طور مالرو مفهومًا فلسفيًا
مثيرًا للإعجاب. قال شيئًا بسيطًا جدًا عن الفن. قال أنه الشيء الوحيد الذي يقاوم
الموت. دعونا نعود إلى البداية: ما الذي يفعله شخص يمارس الفلسفة؟ يخترع المفاهيم.
أعتقد أن هذه بداية مفهوم فلسفي مثير للإعجاب. فكر في ذلك ... ما الذي يقاوم
الموت؟ عليك فقط أن تنظر إلى تمثال من ثلاثة آلاف سنة قبل العصر الشائع لترى كم أن
استجابة مالرو جميلة. يمكننا حينها القول، من وجهة النظر التي تهمنا، أن الفن
يقاوم، حتى لو لم يكن الشيء الوحيد الذي يقاوم. من حيث العلاقة الوثيقة بين فعل
المقاومة والعمل الفني. كل فعل مقاومة ليس عملًا فنيًا، وبعد، بطريقة معينة، هو
كذلك. وكل عمل فني ليس فعل مقاومة، وبعد، بطريقة معينة، هو كذلك.
لنأخذ حالة ستراوب،
على سبيل المثال، عندما يمارس قطع اتصال الصوت بالصورة المرئية. ينفذ الأمر على
النحو التالي: الصوت يرتفع، يرتفع، يرتفع وما يتحدث عنه يعبر إلى الأرض المهجورة
المجردة التي تظهرها لنا الصورة المرئية، صورة مرئية ليس لها علاقة بالصورة
الصوتية. ما هو هذا الفعل الخطابي الذي يرتفع في الهواء بينما يمر موضوعه تحت
الأرض؟ المقاومة. فعل المقاومة. وفي كل أعمال ستراوب، الفعل الخطابي هو فعل
مقاومة. من موسى إلى كافكا الأخير بما في ذلك-أنا لا أضعهم بالترتيب- غير المتوافق
أو باخ. الفعل الخطابي لباخ هو أن موسيقاه فعل مقاومة، نضال فعال ضد الفصل بين
المدنس والمقدس. فعل المقاومة هذا ينتهي في الموسيقى بالصراخ. مثلما هناك
صراخ في ووزيك، هناك صراخ في باخ: "أخرج! أخرج! اذهب للخارج! لا أريد أن
أراك!!!!" عندما وضع ستراوب تشديدًا على هذه الصرخة، على صرخة باخ، أو صراخ
النساء العجائز الانفصاميات في غير المتوافق، فإن ذلك يجب أن يحسب كجانب مزدوج.
فعل المقاومة له وجهان. أنه بشري وهو أيضًا فعل فن. فقط فعل المقاومة يقاوم الموت،
إما على شكل عمل فني أو نضال إنساني.
ما العلاقة بين
النضال الإنساني والعمل الفني؟ هي العلاقة الأقرب والأكثر غموضًا بالنسبة لي. هذا
بالضبط ما عناه بول كلي، عندما قال: "أتعرف، الناس مفقودين". الناس
مفقودين، وفي الوقت نفسه، ليسوا مفقودين. الناس مفقودين تعني أن التقارب الجوهري
بين العمل الفني والناس الذين لا وجود لهم حتى الآن لن يكون واضحًا. لا يوجد أي
عمل فني لا يناقش الناس الذين لا وجود لهم حتى الآن.
*عدل بواسطة ديفيد
لابوجيد، ترجمه إلى الإنجليزية أميس هودجز ومايك تاورمينا
No comments:
Post a Comment