Saturday, June 2, 2018

التكلم بألسنة؛ رسالة إلى كاتبات العالم الثالث؛ غلوريا آنزالدوا

ترجمة: سماح جعفر






 21 مايو 1980م


عزيزاتي النساء ذوات البشرة الملونة، رفيقاتي في الكتابة
أجلس الآن عارية تحت أشعة الشمس، والآلة الكاتبة أمام ركبتي، في محاولة لتصوركن. امرأة سوداء منكبة فوق طاولة في الطابق الخامس لأحد مساكن نيويورك. شيكانا(1) جالسة على الشرفة في جنوب تكساس، تزيح بعيدًا البعوض والهواء الساخن، في محاولة لإثارة جمر الكتابة المشتعل. امرأة هندية تمشي إلى المدرسة أو العمل، وتعرب عن أسفها لعدم وجود وقت لنسج الكتابة في حياتها. آسيوية أمريكية، مثلية، أم وحيدة، تُسحبُ في جميع الاتجاهات بواسطة الأطفال، الحبيب، أو الزوج السابق، والكتابة.

ليس من السهل كتابة هذه الرسالة. فقد بدأت كقصيدة، قصيدة طويلة. وحاولت تحويلها إلى مقال ولكن النتيجة كانت خشبية، وباردة. فأنا لم أَنسى بعد ضربات الثيران المعدة لفئات معينة والتثقيف الزائف الذي أحدثت به المدرسة غسيل دماغ في كتاباتي.

كيف أبدأ من جديد. كيف لي أن أقَرُبَ الحميمة والفورية التي أبتغيها. بأي شكل؟ رسالة، بطبيعة الحال.

إيرماناس العزيزة، الأخطار التي نواجهها كنساء وكاتبات ملونات ليست هي نفسها التي تواجهها النساء البيض، على الرغم من أننا نملُك الكثير من القواسم المشتركة. فنحن ليس لدينا الكثير لنفقده – ولم يكن لدينا أية امتيازات أبدًا. أريد أن اُسمي المخاطر “عقبات”، ولكن ذلك سيكون نوعًا من الكذب. نحن لا نستطيع تجاوز المخاطر، ولا نستطيع أن نرتفع فوقها. يجب علينا أن نمضي من خلالها ونأمل أن لا نضطر إلى تكرار التجرُبة.

وبما أنه من غير المرجح أن نكون أصدقاء لأشخاصٍ في أماكن أدبية عالية، لأن المرأة الملونة غير مرئية في كلٍ من عالم الذكور البيض السائد وعالم النسويات البيض، وإن كان الأمر قد بدأ يتغير في الأخير تدريجيًا. المثلية الملونة ليست فقط غير مرئية، ولكنها غير موجودة حتى. خطابنا، أيضًا، غير مسموع. فنحن نتكلم بألسنة مثل المنبوذين والمجانين.

لأن الأعين البيضاء لا تريد أن تعرفنا، لذلك لم تهتم بتعلم لغتنا، اللغة التي تعكس ذواتنا، ثقافتنا، روحنا. المدارس التي ارتدناها أو لم نفعل لم تُعطنا المهارات اللازمة للكتابة ولا الثقة في أننا كنا على صواب في استخدام طبقتنا ولغاتنا العرقية. أنا، مثلًا،  أصبحتُ بارعة  في اللغة الإنجليزية وتخصصت فيها لأُغيظ واَتشفى في المعلمين العنصريين المتغطرسين الذين كانوا يعتقدون أن كل أطفال الشيكانا أغبياء وقذرين. لم تكن الإسبانية تُدرس في المدارس الابتدائية. ولم تشترط دراستها في المدرسة الثانوية. وعلى الرغم من أنني الآن أكتب قصائدي باللغة الإسبانية وكذلك الإنجليزية إلا أنني أشعر بتمزق في لساني الأصلي.


تقول أني افتقدُ إلى الخيال
لا. أنا افتقدُ إلى اللغة.
اللغة لأبلورَ
مقاومتي في الأدب.
الكلمات حربٌ بالنسبة لي.
فهي تهدد عائلتي.
لاكتساب الكلمة
لوصفِ الفقدان
أواجه خطر خسارة كل شيء.
ربما أخلق وحشًا،
مدى الكلمة وهيكلها
يتورم ملونًا ومثيرًا
يخيم على والدتي، متشكلًا.
صوتها في البعيد
غموضٌ أمي.
هذه هي كلمات الوحش.
شيري موراغا 


من الذي منحنا الإذن لنكتُب؟ لماذا تبدو الكتابة غير طبيعية بالنسبة لي؟ سأفعل أي شيء لتأجيلها – اُفرغ سلة المهملات، أجيب على الهاتف. الصوت يتكرر داخلي: كيف ليّ، أنا الشيكانيتا الفقيرة .من الغابات، أن أعتقد أنني أستطيع الكتابة؟ كيف تجرأت حتى على التفكير في أن أصبح كاتبة بينما أقفُ في حقول الطماطم، منحنية تحت أشعة الشمس الحارقة، ويدي عريضة وخشنة، غير صالحة للإمساك بريشة، ومخدرة في سبات حيواني بفعل الحرارة.
كم هو صعبٌ بالنسبة لنا أن نعتقد أن بإمكاننا أن نختار أن نصبح كاتباتٍ، ولكن رهبتنا تصير أقل عندما نُحس ونؤمن أنه بإمكاننا حقًا أن نصير كاتبات. من نحن لنساهم، لنعطي؟ توقعاتنا الخاصة تُقيدنا. ألا تخبرنا طبقتنا، ثقافتنا وكذلك الرجل الأبيض أن الكتابة ليست للنسوة أمثالنا؟

يتحدث الرجل الأبيض: ربما لو كَشطتِ الحلكة عن وجهك. ربما لو بيضتِ عظامك. توقفت عن التكلم بألسنة وتوقفت عن الكتابة العسراء. لا تصقلي جلدك الملون ولا ألسنتك النارية إذا كنتِ تريدين أن تنجحي في عالم اليد اليمنى.

الرجل”، مثل كل الحيوانات الأخرى، يخاف، ويصدُ ما لا يفهمه، ويظن أن الاختلاف البسيط قادر على أن يحمل ضمنًا شيئًا خبيثًا”. – أليس ووكر


أظن، نعم، ربما لو ذهبنا إلى الجامعة. ربما لو صرنا نسوة تمِلنَ للرجال أو طبقة متوسطة بقدر استطاعتنا. ربما لو تخلينا عن حبنا للنساء، سوف نستحق قول شيء يستحقُ قوله. يخبروننا أننا لا بد أن نزرع الفن لأجل الفن. ونسجد للثور، الشكل المقدس. ونضع أُطرًا وأطر معدنية حول الكتابة. أن نحقق البعد لنفوز باللقب المرغوب “كاتبة أدبية” أو “كاتبة محترفة”. وفوق كل شيء أن لا نكون بسيطات، مباشرات ولا واضحات.

لماذا يقاتلوننا؟ لأنهم يعتقدون أننا وحوش خطيرة؟ لماذا نحن وحوش خطيرة؟ لأننا نهز وكثيرًا ما نكسر الصور النمطية المريحة التي يملكها البيض عنا: العاملة السوداء، المربية المتثاقلة مع اثني عشر طفلًا يمصون حلمتها، الصينية مائلة العينين مع يدها الخبيرة -“اللاتي يعرفن كيفية التعامل مع الرجل في السرير”، والشيكانا ذات الوجه المسطح أو الهندي، والتي بسلبية تستلقي على ظهرها، وينيكها رجل a la Chingada.

ثورات نساء العالم الثالث: نحن نُبطل، نمحُو بصمة الرجل الأبيض. وعندما تأتي لتطرق على أبوابنا بطوابعك المطاطية لتصِم وجوهنا بكلمات مثل غبية، هستيرية، شرموطة بليدة، فاسدة، عندما تأتي بالحديد المنحوت عليه اسمك لتكتب “ممتلكاتي” على أردافنا، فإننا سوف نتقيء الشعور بالذنب، وإنكار الذات، وكراهية العرق التي غذيتنا بها بقوة مباشرة نحو فمك. لقد اكتفينا من كوننا وسائد مخاوفك المتوقعة. لقد تعبنا من كوننا حملان وكباش فداءك.

أستطيع أن أكتب هذا، ولكن رُغم ذلك فأنا أدرك أن الكثير منا نحن النساء ذوات البشرة الملونة اللاتي لديهن شهادات مزخرفة، وثائق تفويض، وكُتب منشورة حول رقابنا مثل اللؤلؤ نتشبث بها طوال الحياة العزيزة نخاطر بالمساهمة في حجب شقيقاتنا الكاتبات. “la Vendida”، وبيع القضية.

خطر خيانة الأيديولوجيات. لنساء العالم الثالث اللاتي يملكن، في أحسن الأحوال، قدم واحدة داخل عالم الأدب النسوي، لأن الإغراء كبير لاعتماد بدع الشعور والبدع النظرية، شبه الحقائق في الفكر السياسي، والبديهيات النفسية للعصر الحديث نصف المهضومة التي تم التبشير بها بواسطة المؤسسة النسوية البيضاء. التي اشتهرت تابعاتها بــ “اعتماد” النساء ذوات البشرة الملونة كــ “قضية” في حين لا يزلن يتوقعن منا التكيف مع توقعاتهن ولغتهن.

كيف نجرؤ على الخروج من وجوهنا الملونة. كيف نجرؤ على إظهار اللحم الآدمي تحتها والدم الأحمر النازف مثل الناس البيض. يحتاج الأمر إلى طاقة هائلة وشجاعة لكي لا نرضخ، لكي لا نستسلم لتعريف نسوي لا يزال يجعل من معظمنا غير مرئيات. حتى وأنا أكتب هذا فإنني منزعجة حيال كوني الكاتبة الوحيدة من العالم الثالث في هذا الكتيب. مرارًا وتكرارًا وجدت نفسي المرأة الوحيدة من العالم الثالث في القراءات وورش العمل والاجتماعات.

لا يمكن أن نسمح لأنفسنا بأن نُرَمَز. يجب علينا أن نجعل كتاباتنا، والتي هي من نساء العالم الثالث الأولوية الأولى. لا يمكننا تثقيفُ النساء البيض وأخذهن باليد. معظمنا على استعداد للمساعدة، ولكننا لا نستطيع أن نقوم بواجبات المرأة البيضاء بدلًا عنها. هذا استنزاف للطاقة، في مرات عديدة، تلقت نيللي ونغ، الكاتبة الأمريكية الآسيوية، اتصالات من نساء بيض يُرِدن قائمة من النساء الأميركيات الآسيويات اللاتي يمكن أن يُدِرنَ قراءات وورش عمل. نحن في خطر التحول إلى متعهدي توريد للقوائم.

بالوقوف وجهًا لوجه أمام قيودك الخاصة. فهناك الكثير من الأشياء التي يمكنك القيام بها في يوم واحد. لويزا تيش، مخاطبة مجموعة من النسويات البيض في الغالب، هذا ما قالته عن خبرة نساء العالم الثالث: إذا لم تكوني واقعة في متاهـ[تنا] التي نحن فيها، فمن الصعب جدًا أن نشرح لكِ ساعات اليوم التي لا نملكها. لأن الساعات التي لا نملكها هي الساعات التي يتم ترجمتها إلى مهارات النجاة وكسب المال. وعندما تُؤخذ إحدى تلك الساعات بعيدًا فهذا يعني أنها ساعة لم نعد نملكها لنستلقي ونحدق في السقف أو ساعة لم نعد نملكها لإجراء محادثة مع صديق. بالنسبة لي إنها رغيف من الخبز.

اِفهم.
عائلتي فقيرة.
فقيرة. لا أستطيع تحمل تكاليف
وشاح جديد. خطورة هذا
الأمر كافية
لجعلي استمر
عبرها، بمسؤولية.
التكرار مثل إعادة سرد
أمي للقصص، كل مرة
يكشف المزيد من التفاصيل
يُكسب المزيد من الإلفة.
لا يمكنك أن تركبني في سيارتك بهذه السرعة.
شيري موراغا 


الرضا عن النفس هو سلوك أخطر بكثير من الغضب.” ناعومي ليتلبير*

لماذا أنا مضطرة للكتابة؟ لأن الكتابة تنقذني من هذا الرضا الذي أخشاه. لأنه ليس لدي أي خيار. لأنه يجب عليّ أن اُبقي روح ثورتي ونفسي حية. لأن العالم الذي خلقته في الكتابة يعوض عما لم يُعطنيه العالم الحقيقي. بالكتابة أُقيمُ النظام في العالم، وأمنحه مقبضًا حتى أتمكن من الإمساك به. أكتبُ لأن الحياة لا ترضي شهيتي وجوعي. أكتب لأسجل ما يمحوه الآخرين عندما أتحدث، لأُعيد كتابة القصص التي أخطأ الآخرين في كتابتها عني، عنك.

لأُصبح أكثر حميمية مع نفسي ومعكِ. لاكتشفَ نفسي، لأحفظ نفسي، لأكون نفسي، لأُحقق استقلاليتي. لأُبدد الأساطير حول كوني نبية مجنونة أو روحًا ضعيفة تعاني. لأُقنع نفسي أنني استحق وأن ما يجب أن أقوله ليس كومة من القرف. لأُظهر أنني أستطيع، وأنني سوف أكتب، بغض النظر عن نُصحهم بالعكس. سأكتب عن الذين لا يذكرون، بغض النظر عن لحظات غضب الرقابة والجمهور. وأخيرًا، سأكتب لأنني خائفة من الكتابة ولأنني خائفة من عدم الكتابة أكثر.

لمَ عليَّ أن أبرر لمَ أكتُب؟ هل أحتاج لأكون شيكانا فقط، امرأة فقط؟ ربما ستحاول أيضًا جعلي أبرر لمَ أحيا؟

فعل الكتابة هو فعل صنع الروح، الكيمياء. هو السعي لأجل الذات، لأجل مركز النفس، وهو ما أصبحنا نفكر فيه نحن النساء ذوات البشرة الملونة كشيء “آخر” – مظلم، أنثوي. ألم نبدأ بالكتابة لنوفق بين هذا الآخر في داخلنا؟ كنا نعرف أننا مختلفات، موضوعات جانبًا، منفيات مما يُعتبر “طبيعيًا”، الحق الأبيض.

وبينما إنضوينا في هذا المنفى، أصبحنا نرى المغاير في داخلنا وفي كثير من الأحيان، ونتيجة لذلك، انقسمنا عن أنفسنا وعن بعضنا البعض. وإلى الأبد بعدها ظللنا نبحث عن تلك النفس، تلك “الأخرى”، وعن بعضنا البعض. وعدنا، بعد التفافات ضخمة، ولكننا أبدًا لم نعد إلى مكان الطفولة نفسه حيث حدث ما حدث، أولًا في عائلاتنا، مع أمهاتنا، مع آبائنا. الكتابة هي أداة لاختراق هذا اللغز ولكنها أيضًا تحمينا، تمنحنا مساحة شاسعة، تساعدنا على البقاء على قيد الحياة. وأولئك الذين لن يتمكنوا من النجاة: نفايات أنفسنا: كثير من اللحوم الملقاة على قدمي الجنون أو المصير أو الدولة.

24 مايو 1980م

الجو مظلم ورطب وكانت تمطر طوال اليوم. أحب الأيام المماثلة. بينما أرقد في السرير أكون قادرة على الإبحار نحو الداخل. ربما اليوم سأكتب من ذلك الجوهر العميق. بينما أتلمس بحثًا عن كلمات وصوت للحديث عن الكتابة، أحدق في يدي البنية القابضة على القلم وأفكر فيكِ على بعد آلاف الأميال تمسكين قلمك. أنت لست وحدك.

أيها القلم، أحس بأنني في الوطن حقًا بينما يقوم حبرك بدوران رقصة الباليه، مثيرًا خيوط العنكبوت، وتاركًا توقيعي على زجاج النوافذ. أيها القلم، لمَ خشيتك أبدًا. أنت أليف جدًا، ولكنها وحشيتك التي وقعت في حبها. سوف أضطر إلى التخلص منك عندما تصبح متوقعًا، عندما تكُف عن مطاردة شياطين الغبار. 

وكلما فُقتَني دهاءً كلما أحببتك أكثر. لكنك تخترق دفاعاتي عندما أشعر بالتعب أو أتناول الكثير من الكافيين أو النبيذ، وتقول أكثر مما كنت أنوي قوله. أنت تدهِشُني، تصدمني بمعرفة جزء مني أبقيته سرًا حتى عن نفسيافتتاحية اليوميات*

 في المطبخ صوتيِ ماريا وشيري يقعان في هذه الصفحات. أستطيع أن أرى شيري تسير مرتدية ردائها، حافية القدمين، تغسل الأطباق، تنظف مفرش المائدة، وتكنس. واستمد متعة ما من خلال مشاهدتها تؤدي هذه المهام البسيطة، وأفكر أنهن كذبنَ، لأنه ليس هناك انفصال بين الحياة والكتابة.

الخطر في الكتابة ليس إدماج تجربتنا الشخصية ورؤية العالم مع الواقع الاجتماعي الذي نعيشه، مع حياتنا الداخلية وتاريخنا واقتصادنا، ورؤيتنا. ما يؤكدنا كبشر يؤكدنا ككاتبات. ما يهم بالنسبة لنا هو العلاقات التي هي مهمة بالنسبة لنا سواء مع أنفسنا أو مع الآخرين. يجب علينا أن نستخدم ما هو مهم بالنسبة لنا للوصول إلى الكتابة. ليس هناك موضوع تافه جدًا. يكمن الخطر في أن تكوني عالمية جدًا وإنسانية وتنشدين الأبدية من خلال التضحية بالشخصي والأنثوي واللحظة التاريخية المحددة.

تكمُن المشكلة في التركيز، الحشد الداخلي. الجسد يتشتت، ويُخَربُ بمئات الخدع، كوب القهوة، الأقلام التي تحتاج إلى الشحذ. الحل هو أن يلوذ الجسد بالسجائر أو بعض الطقوس الأخرى. ومن منا تملُك الطاقة لتكتب بعد رعاية زوج أو حبيب، أطفال، وغالبًا عمل خارجي؟ تبدو المشاكل عويصة وهي كذلك بحق، ولكنها تتوقف عن كونها عويصة عندما نقرر أنه سواء كنا متزوجات أو لدينا أطفال أو نعمل خارج المنزل سوف نصنع وقتًا للكتابة.

انسيِ غرفة ذاتك – اكتبي في المطبخ، احبسي نفسك في الحمام. اكتبي في الباص أو في طابور الإعانات الحكومية، في العمل أو خلال الوجبات، بين الحُلم أو  اليقظة. أنا اكتبُ بينما أجلس في الحمام.

سوف تقضينَ فترات طويلة أمام الآلة الكاتبة إلا إذا كنت ثريًة أو تملُكين راعيًا – قد لا تملكين حتى آلة كاتبة. بينما تغسلين الأرض أو الملابس استمعِ إلى الكلمات المترددة في جسدك. عندما تكونين مكتئبة، غاضبة، مجروحة، عندما تتملكك الرحمة والمحبة. عندما لا تقدرين على فعل شيء سوى الكتابة.

الإلهاءات – هي ما أجلبه على نفسي عندما أكون غارقة جدًا في الكتابة، عندما أكاد أبلغ هذا المكان، ذلك القبو المظلم حيث “شيء ما” يمكن أن يقفز وينقض عليَّ. الطرق التي أخربُ بها الكتابة عديدة. بنفس الطريقة التي لا أقرع بها البئر ولا أتعلم كيف أجعل طواحين الهواء تدور.

الأكل هو إلهائي الأكبر. استيقظ لأتناول فطيرة تفاح. كوني ممنوعة من تناول السكر منذ ثلاث سنوات ليس رادعًا، ولا حقيقة أنني يجب أن أرتدي معطفًا، ثم أجد المفاتيح، وأخرج نحو ضباب سان فرانسيسكو لأحصل على هذه الفطيرة. ربما استيقظ لإشعال بخورٍ، لوضع أسطوانة، أذهب  للتنزه – أي شيء لكي أؤجل الكتابة.

أعود بعد إشباع نفسي. اكتبُ فقرات في قصاصات ورق، تضيف القليل للأحجية على الأرض، للإرتباك في طاولتي، جاعلة الكمال بعيدًا جدًا والمثالية مستحيلة.


28 مايو 1980م

عزيزاتي النساء ذوات البشرة الملونة، أحس بالثقل والتعب وهناك طنين في رأسي – فقد تناولت الكثير من البيرة بالأمس. لكنني لا بد أن أُنهي هذه الرسالة. رشوتي: أن أخرج لتناول البيتزا. لذلك أقُص وألصِق وأخطط الأرض بقصاصات من الورق. حياتي متناثرة على الأرض في أجزاء وفقرات وأنا أحاول أن اَستخرج منها بعض النظام، أعمل في صراع مع الزمن، وأعالج نفسي بالقهوة منزوعة الكافيين، محاولة ملء الثغرات.

جاءت رفيقتي في السكن ليزلي، وجلست على ركبتيها لتقرأ شذراتي الموضوعة على الأرض وقالت، “إنها جيدة يا غلوريا”. وفَكَرتُ: لا يتوجب عليَّ العودة إلى تكساس، إلى عائلتي، الذباب، الصبار، الثعابين، وطائر الجواب. عائلتي، هذا المجتمع من الكاتبات. 

كيف عشت ونجوت وقتًا طويلًا دونكن. أتذكر العزلة، وأعيد عيش الألم مرة أخرى.

تقييم الضرر فعل خطير”، كتبت شيري موراغاوأن تتوقف هناك لهو خطر أكبر.

من السهل جدًا إلقاء اللوم كله على الرجل الأبيض أو النسويات البيض أو المجتمع أو أبوينا. ما نقوله وما نفعله دائمًا ما يرتد إلينا، لذا دعونا نتحمل مسؤولياتنا، دعونا نضعها بين أيدينا ونحملها بكرامة وقوة. لن يقوم أحد بإنجاز أعمالي القذرة، سوف أنظف خلف نفسي.

صار أمر مقاومتي لفعل الكتابة منطقيًا تمامًا بالنسبة لي الآن، الالتزام بالكتابة. أن تكتب هو أن تواجه شياطينك، أن تنظر إليهم في وجوههم وتعيش لتكتب عن الأمر. الخوف يعمل كمغناطيس؛ فهو يجذب الشياطين خارج خزاناتنا ويغمسها في الحبر في أقلامنا.

النمر الذي يركب ظهورنا (الكتابة) لا يتركنا وشأننا. لمَ لا تكتبين، كتابة، كتابة؟ يسألنا باستمرار حتى نبدأ في الشعور بأننا مصاصو دماء نمِصُ الدم الطازج جدًا للتجربة؛ أننا نمِصُ دم الحياة لنغذي القلم. الكتابة هي الشيء الأكثر جرأة الذي فعلته أبدًا وكذلك الأكثر خطورةنيللي وونغ تدعو الكتابة “الشيطان ذو الثلاثة أعين الذي يصيح  بالحقيقة”.

الكتابة خطيرة لأننا نخاف من ما تكشفه الكتابة: مخاوف، استياءات، نقاط قوة المرأة في ظل القمع الثلاثي أو الرباعي. ومع ذلك، في هذا الفعل تحديدًا تكمن نجاتنا، لأن المرأة التي تكتب تملُك قوة. والمرأة القوية مُهابة.

ما الذي عناه أن تكون المرأة السوداء فنانة في زمان جداتنا؟ إنه سؤال إجابته قاسية بما يكفي لتوقف الدم. – أليس ووكر

لم أر قط قوة كبيرة في المقدرة على تحريك وتحويل الآخرين كتلك التي تأتي من كتابة النساء ذوات البشرة الملونة.

في منطقة سان فرانسيسكو، حيث أعيش الآن، ليس هناك أحد يستطيع أن يثير الجمهور بحرفيته وقوله للحقيقة مثل شيري موراغا (شيكانا)، جيني ليم (أمريكية آسيوية)، ولويزا تيش (سوداء). مع نساء مثلهن، عزلة الكتابة وإحساس الضعف يمكن أن يتبدد. يمكننا أن نسير سويًا ونتحدث عن الكتابة، ونقرأ لبعضنا البعض. وكثيرًا عندما أكون وحيدة، نتواصل مع بعضنا البعض. لقد تملكتني الكتابة ودفعتني لأَقفز إلى لا مكان خالد ومنعدم حيث انسى نفسي وأحس بأنني الكون. هذه هي القوة.

إنك لا تكتبين في الورق بل في أحشائك، أمعائك وخلال الأنسجة الحية – أدعوها الكتابة العضوية. لا تكون القصيدة ناجحة بالنسبة لي عندما تقول ما أود منها قوله ولا عندما تستحضر ما أريد منها استحضاره. ولكنها تنجح عندما يتحول الموضوع الذي بدأته كيميائيًا إلى آخر، آخر مُكتَشَف، أو مُفَشَى، عبر القصيدة. 

تنجح عندما تفاجئني، عندما تقول شيئًا قمعته أو تظاهرت بعدم معرفته. معنى وقيمة كتاباتي تقاس بمدى قدرتي على وضع نفسي على الخط ومدى التجرد الذي بلغته.

تقول أودري أننا بحاجة إلى التكلم. التكلم بصوتٍ عالٍ، التكلم عن الأمور المقلقة وأن نكون خطرات، وما تبقى ليس مهمًا، أخرجي كل ما لديك ودعي الجميع يسمعون سواء أحبوا الأمر أم لا. – كاثي كيندال

أقول أيتها المرأة السحرية، أفرغي نفسكِ. اصدمي نفسك نحو طرق جديدة لإدراك العالم، واصدمي قرائك نحو الشيء ذاته. اخرسي الثرثرة داخل رؤوسهم.

يجب أن تكون بشرتكِ حساسة بما فيه الكفاية لأخف قبلة وسميكة بما فيه الكفاية تجاه الهزء. إذا كنتِ ذاهبة لتبصقي في عين العالم، تأكدي من أن ظهركِ للريح. اكتبي عن أكثر ما يربطنا بالحياة، إحساس الجسد، الصور التي تُرى بالعين، توسع النفس في هدوء؛ لحظات الكثافة العالية، حركتها، الأصوات، الأفكار. على الرغم من أننا جائعات إلا أننا لا نفتقر للتجربة.

أعتقد أن كثيرات منا خُدعن بواسطة وسائل الإعلام، ومن خلال تقرير المجتمع أن حيواتنا يجب أن تُعاش داخل انفجارات كبيرة، بواسطة “الوقوع في الحب”، وبواسطة أن نكون “مسحوبين من أقدامنا”، وبواسطة شعوذة المردة السحريين الذين سيحققون أمنياتنا كلها، كل ما اشتقنا له خلال الطفولة. الأماني، الأحلام والأوهام هي أجزاء مهمة من حياتنا الإبداعية. هي خطوات تدمجها الكاتبة في حرفيتها. هي طائفة من الموارد للوصول إلى الحقيقة، قلب الأشياء، الآنية، وتأثير الصراع البشري.-نيللي ونغ

الكثيرون لديهم طريقة مع الكلمات. ويلقبون أنفسهم بالرائين، لكنهم لن يروا. الكثيرون لديهم هبة اللسان ولا شيء لقوله. لا تستمعي إليهم. الكثيرون ممن يملكون الكلمات واللسان لا يملكون أذانًا؛ لا يستطيعون أن يسمعوا ولن يسمعوا.

ليست هناك حاجة لأن تتضخم الكلمات في أذهاننا. فهي تنبت في الفم المفتوح للطفل حافي القدمين وسط الحشود المضطربة. وتتحلل في الأبراج العاجية والفصول الدراسية في الكلية.

ألقي بعيدًا التجريد والتعليم الأكاديمي، القواعد، الخريطة والبوصلة. تحسسي طريقك دون غمامات. لتؤثري في المزيد من الناس، يجب أن تستحضري الوقائع الشخصية مع الاجتماعي – ليس من خلال التصريحات ولكن من خلال الدم والقيح والعرق.
اكتُبي بعينيك مثل رسام، وبأذنيك مثل موسيقي، بقدميك مثل راقص. أنت قائلة الحقيقة بريشة ومشعل. اكتبي بألسنتك النارية. لا تدعي القلم يبعدك عن نفسك لا تدعي الحبر يتخثر في أقلامكِ. لا تدعي الرقيب يشم الشرارة، ولا تدعي الكمامات تُدثر صوتك. ضعي خرائك على ورقة.

نحن لا نتصالح مع الظالمين الذين يتبولون عوائهم على حزننا. نحن لا نتصالح. اعثري على الإلهام داخلكِ. الصوت الذي يقبع مدفونًا تحتكِ، أحفري لإخراجه.

لا تزيفي الأمر، بل حاولي تسويقه مقابل تصفيق أو مقابل طباعة اسمكِ.


بحب،
غلوريا






*من كتاب (This Bridge Called My Back هذا الجسر يدعى ظهري)، 1981، دار نشر  (KITCHEN TABLE: Women of Color Press) بعنوان ( Speaking in Tongues: A Letter to Third World Women Writers) .


نشر هذا المقال في الأصل في إصدارة "كاتبات الخزانة" عن مجموعة اختيار  Choice، لمطالعة العدد كاملًا اضغط هنا




No comments:

Post a Comment