Tuesday, December 25, 2012

البرتوكول الثاني عن الحشيش؛ فالتر بنيامين

ترجمة: سماح جعفر




أبرز ما جاء في انطباعي الثاني عن الحشيش
كتبهُ في 15 يناير 1928. 3:30 مساءً


التذكر أقلُ حيوية وكذلك الاستغراق [Versunkenheit] كان هناك تقلص حاد مقارنة بالمرة الأولى. على وجه الدقة، لم أكن ضائعًا كما كنت في الأفكار [versunken]، ولكن متعمق أكثر. أيضًا، الأروقة القاتمة الغريبة المجلوبة من النشوة تطارد التذكر أكثر من الأماكن المضيئة.

أتذكر مرحلة شيطانية. الأحمر الذي في الجدران أصبح العامل الحاسم بالنسبة لي. تحولت ابتسامتي إلى ملامح شيطانية. على الرغم من أن  تعبير المعرفة الشيطانية يبدو ملائمًا أكثر، الرضا الشيطاني، الاسترخاء الشيطاني أكثر من كونه الأثر الشيطاني المدمر. الإحساس بالحاضرين في الغرفة كما لو أنهم مغمورون بكثافة: أصبحت الغرفة مخملية أكثر، متوهجة أكثر،  مظلمة أكثر. أسميتها ديلاكروا.

الأمر الثاني، المراقبة الشديدة للغاية كانت هي اللعبة مع الغرفة المجاورة. في العموم، يبدأ المرء في لعب مباريات مع الفراغ. ينشأ الخداع في شعور المرء بالاتجاه . والذي يُعرف بحالة التأهب في النزوح غير السار تمامًا، والذي يستحضر عن طريق الخطأ، عندما تسافر ليلًا على المقعد الخلفي من القطار، يتصور المرء أنه يسافر في المقعد الأمامي أو العكس، يمكنه تعلم السلب من ترجمة الحركة إلى سكون.

الغرفة تخفي نفسها أمام أعيننا، تلفُ نفسها كمخلوق مغري في أزياء الترتيبات. لقد اختبرت الشعور ليس فقط بالتتويج الإمبراطوري لشارلمان، ولكن أيضًا قتل هنري الرابع، التصديق على معاهدة فردان وقتل إيغمونت اللذان حدثا في الغرفة المجاورة. الأشياء هي مانيكانات[4] وحتى الأحداث التاريخية العالمية الكبيرة ما هي إلا ملابس تحتية يتبادلون عبرها نظرات التوافق مع العدمية، مع القاعدة مع الابتذال. يستجيبون للغمز الغامض للنيرفانا عبر الطريق. ليتجنبوا التورط بأي شكل من الأشكال في هذه الموافقة، إذن، هذا هو ما يشكل "الرضا الشيطاني " المشار إليه سابقًا. وهذا أيضًا جذر الإدمان، بزيادة التواطؤ بشكل هائل مع غياب تكثيف الجرعة. ربما، ليس خداعًا للذات أن نقول أنه في هذه الحالة يطور المرء نفورًا تجاه جو الحديث الأورانوسي المجاني حيث أفكار "الخارج" تصبح مؤلمة تقريبًا. خلافًا للمرة الأولى، لم يعد هناك ودية، أُنسُ عالق بالغرفة ناتج عن المتعة في حالتها الذاتية. بدلًا عن ذلك، نسج ذاتي سميك، نسج ذاتي عنكبوتي تتعلق به الشؤون العالمية متناثرة مثل جثث حشرات امتُصت حتى الجفاف. هنا، أيضًا، القواعد الأساسية للموقف العدائي تجاه المتواجدين في الغرفة تتبلور؛ وكذلك الخوف من أنهم سيصبحون مصدر إزعاج ويجرون المرء إلى أسفل.

بعدّ، على الرغم من عناصرها الاكتئابية، هذه النشوة لها نتائج شافية والتي، حتى وإن لم تكن مباركة مثل الماضية، فمع ذلك لها جانبها البارع الذي لا يخلو من السحر. إلا أن هذا الأمر يصل إلى ذروته عندما يبدأ مفعولها بالزوال، مما يبين سياق الاكتئاب بوضوح أكبر. لهذا السبب زيادة الجرعة يمكن، تحت ظروف معينة، أن يلعب دورًا في الطابع الاكتئابي.

هيكل مزدوج لهذا الاكتئاب: أولًا الخوف، ثم التردد في المسائل المتصلة بالناحية العملية. التردد يكتسب سيادة: فجأة، إغراء قسري يتعقب الدوافع الخفية جدًا [لحظة]. تتحقق بالتالي إمكانية الرضوخ لها، نوعًا ما، مع احتمال التغلب عليها ..

الجوع يظل كمحور مائل خلال نسق النشوة.

الأمل الكبير، الميل، الشوق للاقتراب من الشيء الجديد غير الممسوس في النشوة يمكن بالكاد تحقيقه لفترة أطول في البهجة المرفرفة، بالأحرى في التعب، الاستغراق الذاتي، الاسترخاء، الخمول، تباطؤ انحدار الطفرة. في هذا الانحدار، يظل المرء مؤمنًا بتطور صداقة معينة، انجذاب معين [Attrativa] بغية حمل الأصدقاء جنبًا إلى جنب مع ابتسامة مظلمة مدببة، نصف إبليسية، نصف هيرمسية متحولة، لم تعد الروح والبشري من التجربة الماضية. لأنها الآن أقل بشرية، أكثر شيطانية ومكابدة في هذه النشوة.

التزامن السيئ، للحاجة إلى البقاء وحيدًا والرغبة في البقاء مع الآخرين، يزداد حدة- شعورٌ يظهرُ أكثر في الإرهاق العميق، ويَجعلُ المرء منغمسًا. ويَجعلُ لديهِ شعورًا بأنه لو كان بمقدوره فقط التخلي عن ذاته لتلك الغمزة الغامضة للنيرفانا خلال الطريق، معتمدًا على نفسه بشكل كامل، في صمت التأمل الذاتي، ولكنه لا زال يحتاج وجود الآخرين حيث ينقل بلطف الشخصيات المحررة، على قاعدة التمثال في العرش الخاص به.

الأمل مثل وسادة ترقد تحت المرء، ولكن، الآن فقط، يغدو لها تأثير.

النشوة الأولى جعلتني أليفًا مع تلون الشك؛ الشك يكمن داخل نفسي مثل لامبالاة إبداعية. التجربة الثانية، على كل حال، تسببت  بجعل الأشياء تبدو مشكوكًا فيها.
عملية الأسنان. لا تستحق تغيير اتجاه الذاكرة. حتى الآن لا أستطيع تحرير نفسي من الصورة الذهنية، التي تقول أن الموقع كان في الجانب الأيسر.

في الطريق إلى البيت أيضًا، عندما يكون المزلاج صعب الإغلاق، الشكوك: تنشئ التجريبية.

عندما يسمع المرء، بإعجاب، صوت البوق، عبثًا تقاوم النباتات نفسها العلامة.

 من المعروف جدًا أنه عندما يغلق المرء عينيه ويضغط برفق عليها فإن رموزًا زخرفية تظهر، والتي، لا يكون لنا أي تأثير على شكلها. البنى والأشكال الحيزية التي يراها المرء أمام عينيه في الحشيش لها ارتباط بتلك الرموز في جذرها. متى تظهر وكيف تظهر-قبل كل شيء- هو أمر قسري، تظهر بسرعة البرق ولا تعلن عن ظهورها، ثم عندما تُرِدُ هناك فجأة، يأتي الخيال أكثر وعيًا دون جهد، بغية اتخاذ بعض الخيارات.

يمكن للمرء أن يقول، وبشكل عام، أن الإحساس بـ "الخارج" ، "العراء"، مرتبط بشعور معين من النفور. على المرء، مع ذلك، أن يميز بدقة بين "الخارج" والحقل الممتد بالكامل أمام النظر، والذي، بالنسبة للشخص الذي في نشوة الحشيش، لديه نفس العلاقة بالخارج التي لخشبة المسرح بالشارع البارد لمرتادي المسارح. بين الحين والأخر، مع ذلك، تكون هناك علاقة بين الشخص المنتشي ومجال رؤيته والذي- لاستكمال المجاز- مثل خشبة مسرح بها هواء مختلف تمامًا عن الهواء الذي يجتاح الخارج. بالأمس صاغ الاقتراب من الموت نفسه أمامي في جملة: الموت يرقد بيني وبين نشوتي.

صورة الإشارات اللاإرادية [Selbstanschluss]: أشياء عقلية معينة من ذواتهم تجعلهم يتكلمون، مثل أوجاع الأسنان، والتي في أوقات أخرى تكون إلى حد ما شرسة. كل الأحاسيس، العقلية منها خاصة، لها تدرج أكثر قوة وقدرة على اقتناص الكلمات من مخبأها.
هذا "الغمز الغامض من النيرفانا عبر الطريق" أصبح بالتأكيد معدومًا كما حيوية اودليون ريدون.

الاختلال الأول الأصعب الذي حدث كان وضع خطط مسبقة. عندما درسناها عن قرب وجدنا  من المدهش كيف أننا قادرون على وضع خطط من يوم إلى أخر، أي بنسبة تتجاوز أحلام يقظتنا المعتادة. من الصعب جدًا أن تصير الأحلام (أو النشوة) في الحشيش أمورًا يسهل التخلص منها.

يريد بلوخ أن يلمس بلطف ركبتي. تصورت هذه اللمسة قبل أن يصل إحساسها إلي بوقت طويل: تصورتها باعتبارها انتهاك غير سار لهالتي. أن نفهم  وجوب أن يضع المرء في اعتباره أن كل الحركات تظهر لتتكسب في وتيرة وترتيب، وهذا ما يجعلها غير سارة.

بعد التأثير: ربما ضعف معين في الإرادة. ولكن عندما يتلاشى تأثير النشوة تربح اليد العليا. هل الميل الأخير لخط يدي للانحدار لأعلى [aufwärtssteigende Schriftrichtung] (رغم منخفضات أكثر تواترًا) له أي علاقة بالحشيش؟[4]

 بعد تأثير أخر: في طريقي إلى المنزل أُحكِمُ قفل المزلاج وعندما أواجه صعوبة في القيام بذلك تكون أول (وأصحح على الفور) أفكاري: إنشاء التجريبية؟
رغم ذلك، الانتشاء الأول يقف عاليًا أخلاقيًا فوق الثاني، شدة الذروة تتزايد بالفعل. هذا يجب أن يفهم أكثر أو أقل على النحو التالي: الانتشاء الأول يخفف ويجذب الأشياء خارج عالمها المعتاد بينما يضعهم الانتشاء الثاني في عالم جديد يكمن وراء هذه الفرجة.

فيما يتعلق بالاستطراد المتواصل في الحشيش. بادي ذي بدء، عدم القدرة على الاستماع. رغم ذلك يبدو عدم التناسب هذا متعلقًا بذلك الإحسان الذي لا حدود له تجاه الآخرين، إلا أنه مع ذلك متجذر. قبل أن [المحادثة] يفتح المرء فمه بالكاد، فإنه يخيب أملنا كثيرًا. ما يقوله يتخلف بعيدًا إلى ما لا نهاية خلف ما يمكن أن ننسبه له بكل سعادة إذا أمنا بأنه سيبقى صامتًا. إنه يخيب أملنا بشكل مؤلم من خلال موقفه غير المستجيب تجاه الموضوع العظيم الذي يستوجب كل اهتمام: ذواتنا.

أما بالنسبة لتشتتنا الخاص، فإنه فجأة يتحول من موضوع قيد المناقشة، الشعور الذي يتطابق مع الانقطاع الجسدي عن التواصل يمكن تفسيره على النحو التالي: نحن مستدرجون إلى ما لا نهاية نحو كل ما نحن منخرطين فيه مباشرة في النقاش؛ نحن نمد أذرعنا بشغف نحو كل ما لدينا عنه مفهوم غامض. بالكاد نلمسه، ومع ذلك، يصيبنا بخيبة أمل بدنية: موضوع اهتمامنا يضمحل بفعل لمسة من اللغة. يشيخ خلال سنوات، حُبنا يستُنفذ تمامًا في لحظة واحدة. وبالتالي هل لها أن تهدأ حتى تصبح مغرية بما فيه الكفاية لتعيدنا إليها.

بالعودة إلى ظاهرة التجوال في الغرفة: إمكانية الأشياء التي يحتمل أنها اتخذت مكانًا في هذه الغرفة، تدركُ في وقت واحد. الغرفة تغمز في آن: لذا، ما الذي حصل لي؟ ربط هذه الظاهرة بالتجوال. التجوال والتوضيح. لتصور ذلك على النحو التالي: صورة واحدة للذات، صورة حجرية ملونة "كيتش" على الجدار مع اقتطاع طويل منحوت في الجزء السفلي من الإطار. وشاح يمتد على طول هذا الجزء السفلي والآن التعليقات تظهر بالتناوب على المحراب: "مقتل إيغمونت"، "التتويج الإمبراطوري لشارلمان" الخ.

في تجربتنا مرارًا وتكرارًا رأيت أروقة بنوافذ بارزة وقلت مرة: أرى البندقية (فينسيا) ولكنها تبدو مثل الجزء العلوي من كورفورشتن شتراسه [Kurfürstenstraße].

"أشعر بالضعف" و "أعلم أن ذاتي ضعيفة"- هاتان نيتان مختلفتان بشكل جذري. لعل الأولى وحدها تحمل اللكمة. لكن في الحشيش يمكن للمرء أن يتحدث بشكل حصري تقريبًا عن قوانين الثانية وربما يفسر لما تبدو تعابير الوجه فقيرة، رغم "الحياة الروحية" الكثيفة. الفرق بين النيتين هو التحقق.

علاوة على ذلك: تغيير الدلالة [Funktionsverschiebung] أخذت هذا التعبير من جويل. التجربة التالية اقترحته لي. خلال الرحلة الشيطانية تم تسليمي كتابًا لكافكا. يقرأ العنوان Betrachtung [التأمل] [5]. ولكن بعد ذلك دفعة واحدة عنى هذا الكتاب لي ما يعنيه كتابُ في يد شاعر بالنسبة إلى نحات أكاديمي يجب عليه نحت تمثال لذلك الشاعر. وقد توافقت فورًا من نفسي على تشييد نحت من شخصي، وبالتالي كان خاضعًا لي بطريقة وحشية ومطلقة أكثر مما يمكن أن ينجزه أشد النقاد تدميرًا.

لكن لا يزال هناك شيء أخر: ألا وهو، أنه بدا كما لو أنني كنت في رحلة من روح كافكا والآن في هذه اللحظة عندما لمسني، تحولت إلى حجر، كما تحولت دافني إلى لبلاب تحت لمسة أبوللو.


اتصال "تجوال-السريرة" مع اللاهوت الأكثر عمقًا. يعكس الغموض، يشرد إلى مساحة من التأمل، والتي يقصد بها فقط مساحة الحياة اليومية. ألا وهو: الوقت، ومن جديد العالم كما هو (أي أن كل ما حدث في أي وقت مضى تم إصداره في نفس الغرفة). بمعنى نظري، هذه حقيقة يابسة تعبة، على الرغم من كل الأفكار المخبئة فيها، والتي تجد مع ذلك ارتياحها الأكبر في وجود التدين، الذي، كما هنا، مساحة الخيال بمثابة كل ما كان، وبالتالي كل شيء بمثابة الأفضل. اللاهوتية غارقة تمامًا في مجال التجوال حيث يمكن للشخص أن يقول: الحقائق العميقة، تتوق إلى جهة بعيدة عن القمع، الحقائق الحيوانية عن الرجال، لا تزال تملك قوة عنيفة قادرة على أن تكيف نفسها على القمعية والأشياء المشتركة، وتعكس نفسها بطريقتها الخاصة في الأحلام غير المسئولة.




*ترجمها للإنجليزية سكوت ج. تومبسون



No comments:

Post a Comment