Tuesday, December 18, 2012

الحصيرة؛ فرانسيسكو ارسيلينا

ترجمة: سماح جعفر


كاتب من الفلبين*





كانت عودة السيد أنجلس،  من رحلات التفتيش الدوري، دائما مناسبة للاحتفال لعائلة أنجلس. لكن عودته- من رحلة إلى الجنوب- قدر لها أن تكون غير منسية، لنقل، أكثر من رحلاته الأخرى.


كان قد كتب من ماريفيليز: "لقد التقيت للتو بصانع حُصُر رائع- فنان حقيقي- ولدي مفاجأة لك. لقد سألته أن ينسج حصيرة للنوم لكل واحد في الأسرة. إنه يستخدم العديد من الألوان ولكل حصيرة؛ اللون السائد سيكون لون حجر الميلاد الخاص بكل واحد فينا. أنا واثق أن الأطفال سيكونون فرحين تمامًا. أعرف أنك ستكونين سعيدة. لا أطيق الانتظار حتى أريها لكم.


قرأت نانا ًًإميليا الرسالة في ذلك الصباح، ومرة أخرى، وأخري كلما وجدت فرصة لمغادرة المطبخ. في المساء عندما عاد كل الأطفال من المدرسة، سألت ابنها الأكبر، خوسيه أن يقرأ الرسالة على طاولة العشاء. تحمس الأطفال كثيرًا لأمر الحُصُر، وتحدثوا عنها حتى وقت متأخر من الليل. حكت كل ذلك لزوجها بينما كانت تجهد في كتابة رد له. لأيام بعد ذلك، الحُصُر أصبحت الموضوع الأساسي للنقاشات التي تدور بين الأطفال.


وأخيرًا، من لوبيز، كتب السيد أنجلس مرة أخرى: "سوف أخذ القطار السريع غدًا. الحُصُر معي، وتبدو جميلة. بمشيئة الرب سأكون في المنزل وأنضم إليكم على العشاء".


قرأت الرسالة بصوت عالٍ خلال وجبة الظهيرة. الحديث عن الحُصُر اندلع مرة أخرى كالنار في الهشيم.


"أحب ملمس الحصيرة،" قال أنطونيو، الطفل الثالث. "أحب رائحة الحصيرة الجديدة".


"أوه، ولكن هذه الحُصُر مختلفة"، قاطعته سوزانا، الطفلة الخامسة. "لأن أسمائنا منسوجة بها، وبألواننا الخاصة أيضًا".


الأطفال كانوا يعرفون ما يتحدثون عنه: كانوا يعرفون شكل الحصير المزخرف؛ لم يكن شيئًا جديدًا أو غريبًا على خبرتهم. لذلك كانوا سعداء جدًا بالمسألة. كان لديهم حصيرة في المنزل، واحدة نادرًا ما يستخدمونها، حصيرة أكبر من أي واحد منهم.


والدة نانا ًًإميليا هي التي أعطتها هذه الحصيرة عندما تزوجت هي والسيد أنجلس، وقد كانت معهم منذ ذلك الحين. استخدموها في ليلة الزفاف، ومنذها لم تستخدم مرة أخرى سوى في المناسبات الخاصة.


كانت حصيرة جميلة جدًا، بالفعل لا يمكن استخدامها في الأيام العادية. كانت على حوافها أرواق خضراء، والكثير من الورود الحمراء الضخمة منسوجة بها. في الوسط، على طول الحصيرة، كانت الحروف: ًًإميليا و جيمي ريكاردو.


كانت الحروف منسوجة باللون الذهبي.


أبقت نانا ًًإميليا الحصيرة دومًا في صندوقها الخاص. وعندما يلتقط أي فرد من العائلة مرضًا، كانت الحصيرة تخرج وينام المريض عليها، يأخذها كلها لنفسه. كل واحد من الأطفال على مدار حياته نام على الحصيرة؛ وأغلبهم نام عليها أكثر من مرة.


معظم الوقت حافظت نانا ًًإميليا على الحصيرة داخل صندوقها الخاص، وعندما كانت تخرجها وتبسطها على الأرضية كان الأطفال دائمًا حولها للمشاهدة. في البداية كانت فقط نانا ًًإميليا هي التي تشاهد انبساط الحصيرة. ثم طفل-- فتاة-- تشاهد معها. كان عدد المشاهدين يزداد بازدياد عدد الأطفال.


لم يبد أن الحصيرة تتقدم في السن. دائمًا ما بدت جديدة لنانا ًًإميليا كاليوم الذي وضعت فيه في فراش العرس. للأطفال كانت تبدو جديدة كالمرة الأولى التي بسطت أمامهم.


الطيات والثنيات دومًا جديدة وطازجة. الرائحة كانت دومًا كرائحة الحصيرة الجديدة. مشاهدة التصميم المعقد كانت بهجة لا نهائية. متعة الأطفال بالأحرف الذهبية حتى قبل أن يتعلموها كانت لا حدود لها. بطريقة ما كانت دومًا رؤيتهم للحاف، صدمة سارة: الفن في النسيج كان بديعًا جدًا ورقيقًا جدًا.


حاليًا، إخراج هذه الحصيرة وبسطها أصبح نوعًا من الطقوس. أصبحت العملية مرتبطة بالمرض في الأسرة. المرض، وحتى المرض الخطير، لم يكونا أمرًا نادرًا. كانت هناك حالات وفاة ...


في المساء كان السيد أنجلس مع عائلته. جلب معه للمنزل الأشياء المعتادة. كان هناك الكثير من الفاكهة، كالعادة (جدول عمله أخذه خلال مقاطعات زراعة الفاكهة): الأناناس، الزركيل، الشيكو، جوز الهند، المانجوستين، البطيخ، فاكهة القشطة، والأفوكادو، وفقًا للموسم. وقد جلب أيضًا جرة من الحلويات من لوبيز.


وضعت الفاكهة بعيدًا، وأخذت منها عينات، وكما جرت العادة كان هناك رسوم متحركة ونقاشات حية. العشاء كان علاقة غرامية طويلة. كان السيد أنجلس مليئًا بحكايات عن رحلته ولكنه كان يقاطع سرده بـ : "لم أستطع أن أنام لليال وأنا أفكر في الأطفال. يجب أن لا نسمح لهم باللعب في الشارع. وأنتم، الأكبر سنًا لا يجب أن تبقوا بالخارج لوقت متأخر".


تلاشت القصص وانتهى العشاء. رفع الأطباق وغسلها وتنظيف الطاولة لم يبد للجميع عملًا مملًا. بالرغم من أن نانا والأطفال لم يبدو أي شيء، ولكنهم جميعًا كانوا متحمسين بشأن الحُصُر.


أخيرًا، وبعد أن قضى وقتًا طويلًا يتناول سيجارته، نهض السيد أنجلس من مقعده على الطاولة وعبر الغرفة لزاوية كانت أمتعته موضوعة بها. ومن الكومة أخرج حزمة ثقيلة.


حملها تحت ذراع واحدة، ومشى لمنتصف الغرفة حيث كان الضوء ساطعًا. ألقى الحزمة، وانحنى ووازن نفسه على أصابع قدميه، وحاول قطع الحبل الذي كان يربط الحزمة. كان سميكًا، لا يقطع، لا يبدو أنه سينحل. حاول أن يفك العقدة. أصابعه كانت خرقاء، وبدأت تهتز.


رفع رأسه، وتنفس بعمق، ليسأل عن المقص. الفونسو، أصغر أولاده، كان يقف إلى جانبه والمقص بيده.


نانا ًًإميليا وابنتها الكبرى اللتين عادتا من المطبخ منذ فترة، كانتا تشاهدان العملية بهدوء.


حركة سريعة واحدة من المقص، قص! وكان الحبل قد قطع.


التفت السيد أنجلس إلى نانا ًًإميليا، قائلًا بفرح: "هذه هي الحُصُر ميلي". أخذ السيد أنجلس الحصيرة التي في أعلى الحزمة.


"أعتقد أن هذه تخصك ميلي".


تقدمت نانا ًإميليا إلى ضوء، ومسحت يديها التي ما زالت رطبة على طيات تنورتها، وبخجل صبياني غريب أخذت الحصيرة. شاهد الأطفال المشهد بصمت ثم بعد ذلك أبدو سرورهم، ورغم الوعي الذاتي الصغير، ضحكوا. كشفت نانا ًًإميليا الحصيرة دون كلمة واحدة. كانت حصيرة جميلة: لعقلها، حتى أكثر جمالا من تلك التي تلقتها من والدتها على زفافها. كان هناك اسم في المركز تمامًا: ًًإميليا. كانت الحروف كبيرة، ومنسوجة باللون الأخضر. زهور - كادينا دي امور-- كانت منسوجة للخارج والداخل بدقة بين الحروف. كانت الحدود كتعرج طويل من غصين كادينا دي امور.


التف الأطفال حول الحصيرة. كان الهواء ينتشر عبر صيحاتهم اللاهثة من البهجة.


"أنها جميلة جيمي، أنها جميلة!" تنهدت نانا ًًإميليا، ولم تستطع أن تقول أكثر.


"وهذه، أعتقد أنها خاصتي"، قال السيد أنجلس وهو يخرج الحصيرة التالية. كانت مزينة ببساطة، والتصميم صارم تقريبًا، والألوان الوحيدة المستخدمة كانت الأرجواني والذهبي. حروف الاسم "جيمي" كانت باللون الذهبي.


"وهذه لأجلك مارسيلينا".


كانت مارسيلينا أكبر الأطفال. ولطالما ظنت أن اسمها طويل جدًا؛ وقد كان أحد أسباب قلقها بخصوص الحصيرة. "كيف بحق الجحيم سيستطيعون نسج كل حروف أسمي في الحصيرة؟" تقريبًا سألت كل أفراد العائلة. والآن هي سعيدة جدًا برؤية كل حروف أسمها منقوشة في الحصيرة، حتى وإن كانت الحروف صغيرة قليلًا. بالإضافة لأنه كان هناك أداة فوق أسمها أبهجت مارسيلينا كثيرًا. كانت على شكل قيثارة، متقنة بثلاثة ألوان. مارسيلينا كانت تدرس الموسيقى وكانت عازفة باينو ماهرة جدًا.


"وهذه لأجلك خوسيه".


خوسيه هو الابن الثاني. كان طالب طب في السنة الثالثة. فوق اسمه كان هناك رمز اسقولابيوس منسوج في الحصيرة.


"لا تستخدم هذه الحصيرة حتى السنة التي ستبدأ فيها التدريب"، قال السيد أنجلس.


"هذه لأجلك انطونيو".


"وهذه لأجلك جوان".


"وهذه لأجلك هيسوس".


حصيرة خلف حصيرة تبسط. وفي كل واحدة من حُصُر الأطفال كانت توجد أداة مناسبة منقوشة.


كل واحد من الأطفال عرض حصيرته الخاصة. الهواء كان مليئًا بحديثهم الحماسي، وعبر ذلك كله كان السيد أنجلس يقول مرارًا وتكرارًا بصوته العميق:


"لا تستخدموا هذه الحُصُر حتى تذهبوا إلى الجامعة".


ثم بعد ذلك لاحظت نانا ًًإميليا بريبة أن هناك بعض الحصر التي لم تبسط.


"لكن جيمي،" قالت نانا ًًإميليا، مبدية تحفظًا واضحًا، "هناك مزيد من الحُصُر".


بدا أن السيد أنجلس هو فقط الذي سمع كلمات نانا ًًإميليا. توقف عن الحديث فجأة، كما لو أنه سحب خارجًا من خيال جميل. نظرة حيرة وتذكر بدت على عينيه، حلت محل الفرحة العميقة والهادئة التي كانت هناك لفترة وجيزة، وعندما تحدث كان صوته متغيرًا.


"نعم ًًإميليا،" قال السيد أنجلس، "هناك ثلاثة حُصُر إضافية. للذين ليسوا هنا ..."


اشتعلت أنفاس نانا ًًإميليا؛ كان هناك انقباض سريع في حلقها؛ بهت وجهها ولم تستطع قول شيء.


الحديث الأناني عن الأطفال الذين ماتوا، كان هناك صمت مطبق بينما أخذ السيد أنجلس أول حصيرة من الحُصُر الباقية وبدأ ببطء في بسطها.


الحصيرة كانت صارمة التصميم تقريبًا كما حصيرة السيد أنجلس، وكان بها أسم. لم يكن هناك نموذج أو أداة فوق الاسم؛ فقط مساحة خالية. فراغ.


الأطفال كانوا يعرفون الاسم. ولكن بطريقة ما الاسم، الحروف التي تشكل الاسم، بدت غريبة لهم.


ثم وجدت نانا ًًإميليا صوتها.


"تعرف جيمي، أنه ليس عليك فعل هذا،" قالت نانا ًًإميليا، صوتها كان متألمًا وبالتأكيد خائفًا.


أمسك السيد أنجلس دموعه؛ كان هناك شيء وحشي وسريع في الحركة.


"هل ظننت أنني سأنسى؟ هل ظننت أنني نسيتهم؟ هل ظننت أنني يمكنني أن أنساهم؟"


"هذا لأجلك جوزفينا!"


"هذا لأجلك فيكتوريا!"


"وهذا لأجلك كونسيبسيون".


نادى السيد أنجلس الأسماء بدلًا من أن يلفظها.


"لا تفعل جيمي، أرجوك لا تفعل،" كان هذا كل ما استطاعت نانا ًًإميليا أن تقول.


"هل من العدل أن ننساهم؟ هل يمكن أن نتجاوزهم؟" طالب السيد أنجلس بدلًا من أن يسأل.


وقد ارتفع صوته ، بطريقة هستيرية تقريبًا، وكان أيضًا شديد اللهجة وحزين، وكأن لديه رغبة في الانتقام بطريقة ما. كان السيد أنجلس يتحدث تقريبًا كما لو كان شخصًا غريبًا.


أيضًا، كان يتحدث كما لو أن صوته قادم من مكان عميق، على مضض، وبحزن متناهي.


سمع الأطفال العبارة تنفجر في صمت. أرادوا الابتعاد وعدم رؤية وجه والدهم. ولكنهم لم يكن بمقدورهم المضي ولا النظر بعيدًا؛ عينيه احتجزتهم، صوته احتجزهم حيث كانوا. وبدوا وكأنهم متجذرين في تلك البقعة.


تجمدت نانا ًإميليا مرة أو مرتين، احنت رأسها، وطوت يديها بين فخذيها.


كان هناك صمت رهيب. الحُصُر المتبقية بُسطت في صمت. الأسماء التي كانت تتكشف ببطء لا نهائي، بدت أغرب وأغرب؛ والألوان لم تبد بهيجة بل مملة بشكل مميت؛ الحروف المتناثرة، التي تنطق أسماء الموتى بينهم، لم يبد أنها تبرق أو تتوهج بلمعان احتفالي كما باقي الأسماء الحية.







No comments:

Post a Comment